الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الألوسي: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ} الخ معطوفة عليه، فهي تذييل له باعتبار أن المقترحين الشاكين من جملة الضالين الطريق المستقين المتبدلين وسواء بمعنى وسط أو مستوى، والإضافة من باب إضافة الوصف إلى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الاتصاف كأنه نفس السواء على منهاج حصول الصورة في الصورة الحاصلة والفاء رابطة وما بعدها لا يصح أن يكون جزاء الشرط لأن ضلال الطريق المستقيم متقدم على الاستبدال والارتداد لا يترتب عليه، ولأن الجزاء إذا كان ماضيًا مع قد كان باقيًا على مضيه لأن قد للتحقيق، وما تأكد ورسخ لا ينقلب، ولا يترتب الماضي على المستقبل، ولأن كون الشرط مضارعًا والجزاء ماضيًا صورة ضعيف لم يأت في الكتاب العزيز على ما صرح به الرضي وغيره فلابد من التقدير بأن يقال: ومن يتبدل الكفر بالإيمان فالسبب فيه أنه تركه، ويؤل المعنى إلى أن ضلال الطريق المستقيم وهو الكفر الصريح في الآيات سبب للتبديل والارتداد، وفسر بعضهم التبدل المذكور بترك الثقة بالآيات باعتبار كونه لازمًا له فيكون كناية عنه، وحاصل الآية حينئذ ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التي من جملتها الآيات الناسخة التي هي خير محض، وحق بحت واقترح غيرها فقد عدل وجار من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى، وتاه في تيه الهوى، وتردى في مهاوي الردى، واختار ما في النظم الكريم إيذانًا من أول الأمر على أبلغ وجه بأن ذلك كفر وارتداد، ولعل ما أشرنا إليه أولى كما لا يخفى على المتدبر، وقرئ {وَمَن يُبَدّلْ} من أبدل وإدغام الدال في الضاد والإظهار قراءتان مشهورتان. اهـ..قال الفخر: {سَوَاء السبيل} وسطه قال تعالى: {فاطلع فَرَءاهُ في سَوَاء الجحيم} [الصافات: 55] أي وسط الجحيم، والغرض التشبيه دون نفس الحقيقة، ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان فهو جار على الاستقامة المؤدية إلى الفوز والظفر بالطلبة من الثواب والنعيم، فالمبدل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه إنه ضل سواء السبيل. اهـ..قال ابن عاشور: وقوله: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} تذييل للتحذير الماضي للدلالة على أن المحذر منه كفر أو يفضي إلى الكفر لأنه ينافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى، ويحتمل أن المراد بالكفر أحوال أهل الكفر أي لا تتبدلوا بآدابكم تقلد عوائد أهل الكفر في سؤالهم كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين: «فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» وإطلاق الكفر على أحوال أهله وإن لم تكن كفرًا شائع في ألفاظ الشريعة وألفاظ السلف كما قالت جميلة بنت عبد الله بن أُبَيَ زوجةُ ثابتِ بن قيس: «إني أكره الكفر» تريد الزنا، فإذن ذكر جملة بعد جملة يؤذن بمناسبة بين الجملتين فإذا لم يكن مدلول الجملتين واضح التناسب علم المخاطب أن هنالك مناسبة يرمز إليها البليغ فهنا تعلم أن الارتداد عن الإيمان إلى الكفر معنى كلي عام يندرج تحته سؤالهم الرسول كما سأل بنو إسرائيل موسى فتكون تلك القضية كفرًا وهو المقصود من التذييل المعرف في باب الإطناب بأنه تعقيب الجملة بجملة مشتملة على معناها تتنزل منزلة الحجة على مضمون الجملة وبذلك يحصل تأكيد معنى الجملة الأولى وزيادة فالتذييل ضرب من ضروب الإطناب من حيث يشتمل على تقرير معنى الجملة الأولى ويزيد عليه بفائدة جديدة لها تعلق بفائدة الجملة الأولى.وأبدعه ما أخرج مخرج الأمثال لما فيه من عُموم الحكم ووجيز اللفظ مثل هاته الآية، وقول النابغة:والمؤكد بجملة: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} هو مفهوم جملة {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} مفهوم الجملة التي قبلها لا منطوقها فهي كالتذييل الذي في بيت النابغة.والقول في تعدية فعل {يتبدل} مضى عند قوله تعالى: {قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} [البقرة: 61].وقد جعل قوله: {فقد ضل} جوابًا لمن الشرطية لأن المراد من الضلال أعظمه وهو الحاصل عقب تبدل الكفر بالإيمان ولا شبهة في كون الجواب مترتبًا على الشرط ولا يريبك في ذلك وقوع جواب الشرط فعلًا ماضيًا مع أن الشرط إنما هو تعليق على المستقبل ولا اقتران الماضي بقد الدالة على تحقق المضي لأن هذا استعمال عربي جيد يأتون بالجزاء ماضيًا لقصد الدلالة على شدة ترتب الجزاء على الشرط وتحقق وقوعه معه حتى إنه عند ما يحصل مضمون الشرط يكون الجزاء قد حصل فكأنه حاصل من قبل الشرط نحو: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} [طه: 81] وعلى مثل هذا يحمل كل جزاء جاء ماضيًا فإن القرينة عليه أن مضمون الجواب لا يحصل إلا بعد حصول الشرط وهم يجعلون قد علامة على هذا القصد ولهذا قلما خلا جواب ماض لشرط مضارع إلا والجواب مقترن بقد حتى قيل: إن غير ذلك ضرورة ولم يقع في القرآن كما نص عليه الرضي بخلافه مع قد فكثير في القرآن.وقد يجعلون الجزاء ماضيًا مريدين أن حصول مضمون الشرط كاشف عن كون مضمون الجزاء قد حصل أو قد تذكره الناس نحو {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} [يوسف: 77] وعليه فيكون تحقيق الجزاء في مثله هو ما يتضمنه الجواب من معنى الانكشاف أو السبق أو غيرهما بحسب المقامات قبل أن يقدر فلا تعجب إذ قد سرق أخ له ويمكن تخريج هذه الآية على ذلك بأن يقدر ومن يتبدل الكفر بالإيمان فالسبب فيه أنه قد كان ضل سواء السبيل حتى وقع في الارتداد كما تقول من وقع في المهواة فقد خبط خبط عشواء إن أريد بالماضي أنه حصل وأريد بالضلال ما حف بالمرتد من الشبهات والخذلان الذي أوصله إلى الارتداد وهو بعيد من غرض الآية.والسواء الوسط من كل شيء قال بلعاء بن قيس: ووسط الطريق هو الطريق الجادة الواضحة لأنه يكون بين بنيات الطريق التي لا تنتهي إلى الغاية. اهـ. .قال في البحر المديد: لا يُشترط في الولي ظهور الكرامة، وإنما يشترط فيه كمال الاستقامة، ولا يشترط فيه أيضًا هداية الخلق على يديه؛ إذ لم يكن ذلك للنبيّ فكيف يكون للولي؟قال تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يُونس: 99] وقد سَرَى في طبع العوام ما سَرَى في طبع الكفار، قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا} [الإسرَاء: 90] الآية.فكثير من العوام لا يقرون الولي حتى يروا له آية أو كرامة، مع أن الولي كلما رسخت قدمه في المعرفة قلَّ ظهور الكرامة على يديه؛ لأن الكرامة إنما هي معونة وتأييد وزيادة إيقان.والجبل الراسي لا يحتاج إلى عماد.والحق هو ما قاله الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: وإنهما كرامتان جامعتان محيطتان: كرامة الإيمان بمزيد الإيقان على نعت الشهود والعيان، وكرامة العمل على السنة والمتابعة، ومجانبة الدعاوى والمخادعة، فمن أُعْطِيَهُمَا ثم اشتاق إلى غيرهما فهو مفتر كذاب، أو ذو خطأ في العلم والفهم، كمن أكرم بشهود الملك على نعت الرضى والكرامة، ثم جعل يشتاق إلى سياسة الدوام وخِلَعِ الرضا أو كما قال رضي الله عنه.وقال شيخنا رضي الله عنه: الكرامة الحقيقية هي الأخلاق النبوية والعلوم اللدنية. فمن أنكر أولياء أهل زمانه وطلب منهم الدليل غير ما تقدم فقد ضلّ سواء السبيل، وبقي مربوطًا في سجن البرهان والدليل. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق. اهـ..قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}.التفسير:لما شرح الله تعالى قبائح أفعال السلف من اليهود، شرع في قبائح أخلاق المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجدّهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه، واعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين في ثمانية وثمانين موضعًا من القرآن. قال ابن عباس: وكان يخاطب في التوراة بيا أيها المساكين فكأنه سبحانه لما خاطبهم أولًا بالمساكين أثبت لهم المسكنة آخرًا حيث قال: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} [البقرة: 61] وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أوّلًا فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب آخرًا {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلًا كبيرًا} [الأحزاب: 47]، ولاسيما فإن المؤمن اسم من أسمائه العظام، ففيه دليل على أنه تعالى يقرّبهم منه في دار السلام. وقيل: آمنوا على الغيبة نظرًا إلى المظهر وهو الذين ولو قيل آمنتم نظرًا إلى النداء جاز من حيث العربية، ثم إنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من إحداهما ويأذن في الأخرى ومن هنا قال الشافعي: لا تصح الصلاة بترجمة الفاتحة عربية كانت أو فارسية.فلا يبعد أن يمنع الله من قول: {راعنا} ويأذن في قول: {انظرنا} وإن كانا مترادفين. ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قول: {راعنا} لاشتماله على مفسدة. ثم ذكروا وجوهًا منها: أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقي عليهم شيئًا من العلم راعنا يا رسول الله، واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي راعينا ومعناها اسمع لا سمعت كما صرح بذلك في سورة النساء {ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا} [النساء: 46] فإن الجميع كأنها متقاربة فلما سمعوا المسلمين يقولون {راعنا} افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون المسبة، فنهى المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي {انظرنا}.روي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده إن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت، ومنها قال قطرب: هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند الهزء والسخرية فلا جرم نهى الله عنها، وقيل: إن اليهود كانوا يقولون راعينا أي أنت راعي غنمنا فنهاهم عنه. وقيل: إن هذه اللفظة لكونها من باب المفاعلة، تدل على المساواة بين المتخاطبين كأنهم قالوا: أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا فنهوا عنه {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} [النور: 63] وقيل: {راعنا} خطاب مع الاستعلاء أي راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره، وليس في {انظرنا} إلا سؤال الانتظار. وقيل: إنها تشبه اسم الفاعل من الرعونة والحمق، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر كقولهم عائذًا بك أي أعوذ عياذًا. فقولهم: {راعنا} أي فعلت رعونة، ويحتمل أنهم أرادوا صرت راعنا أي ذا رعونة، فلمكان هذه الوجوه الفاسدة نهى الله عنها، وقيل: المراد لا تقولوا قولًا راعنًا أي منسوبًا إلى الرعن كدارع ولابن، ومنه قراءة الحسن {راعنًا} بالتنوين. وانظرنا من نظره إذا انتظره {انظرونا نقتبس من نوركم} [الحديد: 13] أمرهم الله تعالى أن يسألوه صلى الله عليه وسلم الإمهال لينقلوا عنه فلا يحتاجون إلى الاستعادة كأنهم قالوا له: توقف في كلامك وبيانك مقدار ما يصل إلى أفهامنا. وهذا القدر غير خارج عن قانون الأدب فقد يلتمسه المتعلم حرصًا منه على أن لا يفوت منه شيء من الفوائد وإن كان المعلم غير مهمل دقائق التفهيم والإرشادمن التثبت والتأني والإعادة إن احتيج إليها ونحو ذلك. وقيل: انظرنا معناه انظر إلينا مثل {واختار موسى قومه} [الأعراف: 155] أي من قومه. والغرض أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كانت إفاضته عليه أظهر وأقوى. وفي قراءة أبيّ {انظرنا} من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظه.{واسمعوا} معناه أحسنوا سماع كلام نبيكم بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة، أو اسمعوا سماع قبول وطاعة لا كاليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا، أو اسمعوا ما أمرتم به ولا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه من قول راعنا، وللكافرين ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه عذاب أليم قوله: {ما يود} الآية.{من} الأولى للبيان، لأن {الذين كفروا} جنس تحته نوعان: أهل الكتاب والمشركون. كقوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1] {ولا} مزيدة لتأكيد النفي وقرئ {ولا المشركون} والثانية مزيدة لاستغراق الخير ف {أن ينزل} في سياق النفي: فمعنى ما يود أن ينزل يود أن لا ينزل. والثالثة لابتداء الغاية، والخير الوحي وكذلك الرحمة {أهم يقسمون رحمة ربك} [الزخرفة: 32] والمعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي، ولا أثر لهذا الحسد فإن الله يختص بالنبوة من يشاء ولا يكون إلا ما يشاء، وما يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة.{والله ذو الفضل العظيم} والفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة، والإفضال والإحسان، وفيه إشعار بأن إيتاء النبوة من غاية الإحسان وأنهار شحة من بحار كماله {إن فضله كان عليك كبيرًا} [الإسراء: 87].قوله عز من قائل: {وما ننسخ من آية} نوع ثان من تقرير مطاعن اليهود خذلهم الله في الإسلام.روي أنهم قالوا: ألا ترون إلى محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولًا ويرجع عنه غدًا فنزلت.وفي الآية مسائل:المسألة الأولى: معنى النسخ:النسخ لغة هو الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته. والنقل أيضًا وهو أن يغير الشيء في صفته وحاله مع بقائه في نفسه، ومنه نسخت الكتاب، والمناسخات في المواريث لانتقال التركة من قوم إلى قوم. فقيل مشترك بينهما، وقيل حقيقة في الأول مجاز في الثاني، وقيل بالعكس.وفي الاصطلاح: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر، فيخرج المباح بحكم الأصل إذا ورد الشرع بضده رافعًا لإباحته فإنه لا يسمى نسخًا إذ ليس رفع حكم شرعي ويخرج أيضًا الرفع بالنور والغفلة لأن ذلك الرفع ليس بمجرد الدليل الشرعي وهو «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ونحوه، بل يقتضيه العقل أيضًا بخلاف الرفع بنحو «دعي الصلاة أيام أقرائك» فإنه لا مجال للعقل فيه. ويخرج الرفع بنحو «صم إلى آخر الشهر» فإن إلى أوجبت مخالفة حكم ما بعدها لما قبلها إلا أنها لا تسمى نسخًا لأنه ليس متأخرًا، ويمكن أن يقال: إن قيد متأخر إنما ينبغي أن يذكر لأن دليل النسخ لا يكون إلا كذلك. ونحو صم إلى كذا وأمثاله من أنواع التخصيص متصلًا كان أو منفصلًا، إنما خرج بقيد الرفع لأن رفع الحكم إنما يكون بعد إرادة حصوله على المكلف، والتخصيص ليس كذلك لأن صورة التخصيص غير مرادة من اللفظ بل التخصيص مبين لمراد الشارع من العام. ونعني بالحكم هاهنا ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن، فإن الوجوب المشروط بالعقل الذي هو مناط التكليف لم يكن حاصلًا عند انتفاء العقل والموقوف على الحادث حادث. وإذا كان المراد بالحكم هذا فلا يرد قول المعتزلة الحكم عندكم قديم فكيف يرتفع؟ وذلك أنا عنينا بالحكم تعلق الخطاب بعدما لم يتعلق وهذا محدث يرتفع.وأيضًا نقطع بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب الثابت أولًا وهو المعنى بالرفع، ويحسن أيضًا أن يقال: النسخ بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ، فيخرج بقولنا شرعي بيان انتهاء حكم عقلي كالبراءة الأصلية، وبطريق شرعي يخرج به بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق عقلي كانتساخ القيام عمن ينكسر رجله. وقولنا متراخ ليخرج التخصيص بالغاية. ومن هذا يعلم تعريف الناسخ والمنسوخ، ومعنى بيان انتهاء الحكم أن الخطاب السابق له غاية في علم الله تعالى، فإذا انتهى إلى تلك الغاية زال بذاته، ثم ورد الخطاب اللاحق بيانًا لذلك.المسألة الثانية: جواز وقوع النسخ:انعقد الإجماع من أكثر أرباب الشرائع ومن المسلمين خاصة على جواز النسخ عقلًا وعلى الوقوع شرعًا، وخالف اليهود في الجواز، وأبو مسلم الأصفهاني من المسلمين في الوقوع لا الجواز. لنا القطع بالجواز ضرورة فإن له تعالى أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير النظر إلى حكمة ومصلحة، وإن اعتبرت المصالح فالقطع أن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات فهذا ما يدل على جواز النسخ. وفي التوراة أنه أمر آدم بتزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك في شريعة من بعده باتفاق، وهذا ما يدل على وقوعه، وكيف لا وقد ثبت بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة نبوته محمد صلى الله عليه وسلم، وبصحة نبوته يلزم نسخ شرع من قبله. ولم يكن لليهود والنصارى نص صريح يعلم منه أمد شرعهم على التعيين حتى يلزم أن يكون شرع نبينا انتهاء غاية لا نسخًا. حجة اليهود لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر هذه شريعة مؤبدة عليكم بها ما دامت السموات والأرض وأيضًا إن كان نسخ الحكم الشرعي لحكمة ظهرت له تعالى لم تكن ظاهرة فهو البداء وإلا فعبث وكلاهما محال على الله تعالى، إذ البداء عبارة عن الظهور بعد الخفاء والعبث فعل لا يستتبع غاية. والجواب عن الأول المنع من أنه قول موسى عليه السلام، ويؤكده أنه لو كان هذا القول صحيحًا عندهم لقضت العادة بقوله لرسولنا صلى الله عليه وسلم ولحاجوه بذلك، لكن اليهود لم يتمسكوا به في عهده فدل ذلك على أنه إفك افتراه المتأخرون منهم. وعن الثاني بعد تسليم اعتبار المصالح أنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في حال وضرره في آخر، بل الزمان الممتد من الأزل إلى الأبد قد وزع أجزاؤه فيما لم يزل على الجزئيات الواقعة فيها الصادرة شيئًا فشيئًا بحسب وقت وقت لا لمصلحة تعود إليه تعالى بل لما هو أصلح بالنسبة إلى المتزمنات. فالظهور والخفاء والسابق واللاحق، والإعدام والإيجاد، كلها بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إلى حضرة الواجب جل ذكره فقد جف القلبم بما هو كائن إلى يوم الدين.والحاصل أن كل حكم فله غاية في علم الله تعالى، ولكن قد يظن المكلف استمراره في الاستقبال من قرائن الأحوال، فإذا ورد ما يبين أمده ونص له على زواله فذلك الوارد ناسخ والأول منسوخ والورود نسخ، وكل هذه التجددات بالنسبة إلى المكلف، وأما بالإضافة إليه تعالى فكل من الحكمين موجود في وقته الذي قدر له فيه الظهور متقدمًا أحدهما ومتأخرًا الآخر. وليس هذا في الأحكام فقط وإنما ذلك في كل حادث، فمن تأمل نسخة الوجود ونسب الحوادث المتفاوتة بعضها إلى بعض بالتقدم والتأخر والمعية، وجد وجوداتها المترتبة أشبه شيء بكتاب يقرؤه القارئ سطرًا بعد سطر، وكلمة تلو كلمة، إذا انقضى مجموع من ذلك تلاه مجموع آخر حسب ما رتبه الحكيم العليم بمبادئه ومقاطعه، فالمنقضي في حكم المحو، والتالي في حكم الإثبات، والهيئة الاجتماعية بدون اعتبار التلاوة المستلزمة لانقضاء شيء وظهور ما يعقبه هي أم الكتاب، وهذا سر قوله عز من قائل: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39] ولك أن تعبر عن المجموع الدفعي بالقضاء وعن ظهوره التدريجي بالقدر وفي هذا القدر كفاية للفطن المستبصر.المسألة الثالثة: وقوع النسخ في القرآن:اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه:أحدها: هذه الآية أعني {ما ننسخ من آية}.وأجاب أبو مسلم بأن المراد بالآيات المنسوخة الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله عنا وتعبدنا بغيره، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأبطل الله ذلك عليهم بهذه الآية. وأيضًا لعل المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب. وأيضًا إن ما هاهنا يفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك من جاءك فأكرمه لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه.وثانيها: الاعتداد بالحول في قوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول} [البقرة: 240] نسخ بأربعة أشهر وعشر في قوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا} [البقرة: 234] أجاب أبو مسلم بأن الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملًا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولًا كاملًا، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصًا لا نسخًا. ورد بأن عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر، فجعل السنة مدة للعدة يكون زائلًا بالكلية.وثالثها: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} [المجادلة: 12] منسوخة بالاتفاق، أجاب بأنه زال لزوال سببه، لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون عن المؤمنين. ورد بأنه يلزم منه أن من لم يتصدق كان منافقًا وهو باطل، لما روي أنه لم يتصدق غير علي عليه السلام، وبدليل {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} [المجادلة: 13].ورابعها: الأمر بثبات الواحد للعشرة في قوله: {فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] ثم نسخ ذلك بقوله: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} [الأنفال: 66].وخامسها: تحويل القبلة. قال أبو مسلم: حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليه عند الإشكال، أو مع العلم إذا كان هناك عذر. ورد بأن بيت المقدس وسائر الجهات في ذلك سواء.وسادسها: {وإذا بدلنا آية مكان آية} [النحل: 101] والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم. وكيفما كان فهو رفع ونسخ، فهذه الدلائل وأمثالها تدل على وقوع النسخ في الجملة. حجة أبي مسلم {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصلت: 42] والجواب أن الضمير للمجموع، وأيضًا نسخة بالنسبة إلى المكلف لا ينافي حقيته في نفسه وكونه قرآنًا عربيًا.المسألة الرابعة: أنواع النسخ:المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط كالآيات المعدودة، أو التلاوة فقط كما يروى عن عمر أنه قال: كنا نقرأ آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم» وروي «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» أو الحكم والتلاوة معًا كما روي عن عائشة «كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات ثم نسخن بخمس» فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعًا، والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم. ويروى أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان.ولنرجع إلى تفسير الآية: {ما ننسخ} محمول على نسخ الحكم وإزالته دون التلاوة، أو ننسها على نسخ الحكم والتلاوة جميعًا. وإنساؤها أن يذهب بحفظها عن القلوب وذلك بأن تخرج من جملة ما يتلى ويقرأ في الصلاة، أو يحتج به، فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد، فتصير بهذا الوجه منسية من الصدور أو يكون ذلك معجزة له صلى الله عليه وسلم كما يروى أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها. قال عز من قائل: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} [الأعلى: 6، 7] وإنساخ الآية الأمر بنسخها وهو أن يأمر جبريل بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها، ونسؤها تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل. وقيل: ما ننسخ من آية أي نبدلها إما بأن نبدل حكمها فقط، أو تلاوتها فقط، أو نبدلهما، أو ننسها نتركها كما كانت ولا نبدلها، لأن النسيان قد يجيء بمعنى الترك.وقيل: ما ننسخ من آية ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها بالهمزة نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ، أو نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة. ولا يخفى أن قوله: {نأت بخير منها أو مثلها} لا ينطبق على هذين القولين كما ينبغي. ومعنى الآية عند جمهور المفسرين آية القرآن، وعند أبي مسلم التوراة والإنجيل كما مر. وقد عرفت أنه يمكن حملها على معنى أعم، فكل مجموع من الوجود في كل زمان من الأزمنة آية من صحيفة المخلوقات، وكل فرد من ذلك المجموع كلمة من كلمة الله {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي} [الكهف: 109] ومعنى {نأت بخير منها أو مثلها} إن حملنا الآية على ما يتضمن حكمًا على المكلف أن الثاني أخف أو أصلح بالنسبة إلى وقته كما أن الأول كان أصلح بالإضافة إلى وقته. فالثاني خير بالنسبة إلى وقته، ومثل الأول بالنسبة إلى وقته، أو يراد أن العمل بالثاني أكثر ثوابًا من العمل بالأول أو مساوٍ له، فكل منهما قد تقتضيه الحكمة دون ما هو أقل ثوابًا، وإن حملنا الآية على غير ذلك فيتعين الأصلح. قال أهل الإشارة أراد بالنسخ نقل السالك وترقيه من حال إلى حال أعلى منه، وإن غصن استكمالهم أبدًا ناضر، ونجم وصالهم دائمًا زاهر، فلا ينسخ من آثار عباداتهم شيء إلا أبدل منها أشياء من أنوار العبودية، ولا ينسخ شيء من أنوار العبودية إلا أقيم مكانها أشياء من أقمار الربوبية. وأيضًا إنهم يشاهدون بعض الوقائع الشريفة في الصور اللطيفة كسبتها المتخيلة بحسب صفاء الوقت وعلو المقام، فلما ارتقوا إلى مقام آخر لا يشاهدون ذلك بتلك المشاهدة، فيظن السالك الغر أنه حجب عن ذلك المقام أو الحال، فقيل: ما ننسخ من آية من آيات المقامات، أو ننسها بأن نمحوها من إدراك الخيال، نأت بخير من تلك المشاهدة أو مثلها.ثم الأئمة استنبطوا من الآية مسائل: الأولى: زعم قوم أنه لا يجوز نسخ الحكم لا إلى بدل لقوله: {نأت بخير منها أو مثلها} والجمهور على خلافه لأن الآية لا تدل إلا على وجوب الإتيان بآية أخرى، أما على وجوب الإتيان بحكم آخر فلا. سلمنا لكنه مخصوص بنسخ تقديم الصدقة بين يدي النجوى، وبنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر من غير بدل. سلمنا عدم تخصيصه لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك البدل عدم الحكم الذي رفع بالنسخ ويكون نسخه بغير بدل وجودي خيرًا للمكلف لمصلحة علمت. الثانية: زعم قوم أن النسخ لا يجوز بأثقل، لأن الأثقل لا يكون خيرًا منه ولا مثله.وردّ الجمهور عليهم بأن المراد كثرة الثواب وذلك لا ينافي كونه أثقل «أجرك على قدر نصبك» وأيضًا قد وقع كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بالصوم حتمًا، وصوم عاشوراء برمضان، والحبس في البيوت للزاني بالحد. وأما النسخ إلى الأخف فكنسخ العدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها. وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة. الثالثة: عن الشافعي أن الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة لقوله: {نأت بخير منها} وذلك يدل على أن المأتي به من جنسه كما إذا قال الإنسان ما آخذ منك من ثوب آتك بخير منه يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه، وجنس القرآن قرآن. وأيضًا {نأت} يدل على أن الآتي هو الله لا الرسول. وأيضًا المأتي به خير والسنة لا تكون خيرًا من القرآن. وأيضًا قوله: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} دل على أن الآتي بذلك الخير هو القادر على جميع الخيرات وعلى تصريف المكلف تحت مشيئته وإرادته، لا دافع لما أراد ولا مانع لما شاء وذلك هو الله تعالى. وأجيب بأن قوله: {نأت بخير منها} ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخًا، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئًا مغايرًا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ وذلك أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى، فلو كان نسخ تلك الآية مرتبًا على الإتيان بذلك الخير لزم الدور. قلت: ويمكن دفع الدور بأن يقال: المراد ما أردنا نسخها من آية نأت بخير منها حتى ننسخها. ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة بأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله: «ألا لا وصية لوارث» وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم. أجاب الشافعي: بأن كون الميراث حقًا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية، ولعل الرجم إنما ثبت بقوله تعالى: {الشيخ والشيخة} إلخ.{له ملك السموات والأرض} فهو يدبر الأمور ويجريها على حسب المصالح، وهو أعلم بما يتعبد المكلفين به من ناسخ ومنسوخ. والخطاب في {ألم تعلم} إما للنبي صلى الله عليه وسلم فتدخل الأمة تبعًا، أو لكل من له أهلية الخطاب. ومعنى الاستفهام فيه التقرير والإثبات لظهور آثار قدرته ووضوح آيات ملكه وسلطانه. وقيل: إشارة إلى ما شاهد ليلة المعجزات بعين اليقين ثم علمها حق اليقين، فترقى من رؤية الآيات إلى كشف الصفات، ومن كشف الصفات إلى عيان الذات، ثم نسخت عن الخيال وأثبتت في العيان. والولي ضد العدو، وكل من ولي أمر واحد فهو وليه، فعيل بمعنى فاعل وكذا النصير. والواو في {وما لكم} يحتمل أن تكون للاعتراض فلا محل للجملة، ويحتمل أن تكون للعطف على {له ملك السموات} فيدخل تحت الاستفهام، ويكون قوله: {من دون الله} من وضع الظاهر موضع الضمير ولا يوقف على {والأرض}.{أم تريدون} قيل: الخطاب للمسلمين لقوله: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} وهذا لا يصح إلا في حق المؤمنين، ولأن {أم} للعطف ولا معطوف ظاهرًا. فالتقدير: وقولوا انظرنا واسمعوا، فهل تفعلون هذا كما أمرتم {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} ولأنه سأل قوم من المسلمين أن يجعل صلى الله عليه وسلم لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهًا كما لهم آلهة وهذا قول الأصم والجبائي وأبي مسلم. وقيل: إنه خطاب لأهل مكة وهو قول ابن عباس ومجاهد إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قريش فقال: يا محمد، ما أؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتابًا من الله إلى عبد الله بن أمية أن محمدًا رسول الله فاتبعوه. فقال له بقية الرهط: فإن لم تستطع ذلك فأتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله كما سأله السبعون، وعن مجاهد: أن قريشًا سألت محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبًا. فقال: نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا. وقيل: المراد اليهود لأن هذه السورة من أول قوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي} حكاية عنهم ومحاجة معهم، ولأن الآية مدنية، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يتبدل كفرًا بإيمان، وليس في ظاهر الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلًا عن كيفية السؤال، بل المرجع فيه إلى الروايات المذكورة. وههنا بحث وهو أن السؤال الذي ذكروه إن كان طلبًا للمعجزات فمن أين أنه كفر؟ ومعلوم أن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفرًا وإن كان ذلك طلبًا لوجه الحكمة التفصيلية في نسخ الأحكام، فهذا أيضًا لا يكون كفرًا فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلق البشر ولم يكن ذلك كفرًا. فالتفكير إما لأنهم طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم إلهًا كما لهم آلهة، وإما لأنهم طلبوا المعجزات على وجه التعنت واللجاج. قلت: والأصوب في الآية أن يكون {أم تريدون} معطوفًا على {ألم تعلم} على أنه خطاب لكل مكلف، فيكون في معنى الجمع.ثم {أم} إما أن تكون متصلة على معنى أي الأمرين كائن فإن العلم واقع بكون أحدهما لأنه إما أن لا يعلم نفوذ علمه وقدرته وأن الكل تحت قدرته وقهره وتسخيره، وإما أن يعلم فيسأل وجه الحكمة في النسخ وغيره على سبيل العناد وكلا الأمرين يوجب التكفير. أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن المعترف بحكمته البالغة وعنايته الشاملة ورأفته الكاملة وقدرته الظاهرة من حقه أن يقتصر على علمه الإجمالي ولا يتخطى مقام الأدب في البحث والتفتيش عن تفاصيل حكمته التي لا تكاد تنحصر. ويوهم أن السائل في شك مما أمر به أو نهي عنه، وعلى هذا لا يوقف على نصير. وإما منقطعة على أنه أضرب عن الاستفهام الأول واستأنف استفهامًا ثانيًا، ويحتمل أن لا يكون قوله: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} حكمًا بتكفيرهم بسبب السؤال بل يكون تنبيهًا للمكلفين، على أن السؤال عما لا يهم لهم مما قد ينجر إلى الغواية لكثرة عروض الشكوك والشبهات حتى يقفوا على الاعتقاد الحق والتقليد الصرف فيما لا سبيل إلى درك تفاصيله أو لا يهم معرفتها. وسواء السبيل وسطه وهو الصراط المستقيم الذي مر تفسيره. اهـ.
|